الخميس، 25 أغسطس 2016

الغنى سبب والفقر نتيجة

الكاتب البريطاني الراحل كريس هارمن له عدة مؤلفات، من بينها كتاب "كيف تعمل الماركسية" الذي صدرت له 6 طبعات، أولها في عام 1979 وآخرها في عام 2000. يقدم في كتابه شرح مبسط لمبادىء الماركسية، وأسباب التدهور الإقتصادي والإجتماعي والسياسي في المجتمعات. تطرّق في الفصل الأول لسبب حاجتنا للنظرية الماركسية. أقدمها على شكل ترجمة ثانوية معدّلة ومُبسطة، ويذكر فيها الكاتب حسب قراءتي للفصل الأول للكتاب الأصلي بالإنجليزية، والترجمة الأولى بالعربية.

لماذا نحتاج للنظرية الماركسية؟ فيما نحتاج لتلك النظرية؟ نحن نعلم أن هناك أزمة إقتصادية وإجتماعية وسياسية، ونحن نعلم أن أصحاب العمل ينهبوننا، وأننا غاضبون جميعاً، وأننا بحاجة إلى حلول. أما غير ذلك فلندعه للمثقفين. كثيراً ما تسمع كلمات كهذه من الدعاة للإشتراكية. ويتم دعم وتشجيع مثل هذه الآراء بكل قوة من جانب أعداء الإشتراكية، الذين يحاولون إعطاء الإنطباع بأن الماركسية هي "تعاليم غامضة ومعقدة ومملة". إنهم يقولون أن الأفكار الاشتراكية "غير قابلة للتطبيق". قد تبدو هذه الأفكار "جيدة نظرياً"، أما على أرض الواقع فإن المنطق السليم يخبرنا بشيء مختلف تماماً. تكمن مشكلة هذه الأطروحات في أن أصحابها عادةً ما تكون لهم "نظرية" فعلاً، حتى وإن كانوا يرفضون الإعتراف بذلك. اسألهم أي سؤال عن المجتمع، وستجدهم يحاولون الإجابة بتعميم أو بآخر. وإليك بعض الأمثلة: "الناس أنانيون بطبعهم"، "أي شخص يستطيع الوصول إلى القمة إذا حاول بجهد كافي"، "لولا الأغنياء لما كانت هناك نقود لتوفير العمل لنا"، "لو أننا فقط استطعنا تعليم العاملين، سيتغير المجتمع"، " تدهور الأخلاق هو الذي أوصل البلاد لما هي عليه اليوم". أنصت لما يقال في الشارع  أو أماكن العمل، وستسمع العشرات من هذه الأقوال، التي يتضمّن كلٌ منها رأياً حول أسباب الحالة الراهنة للمجتمع وكيفية تحسين الناس لظروفهم. إن مثل هذه الآراء ليست سوى "نظريات" حول المجتمع. فعندما يقول الناس بأنهم لا يملكون نظرية معينة، فإن ما يعنونه في الواقع هو أن آرائهم ليست واضحة. إن ذلك خطير بشكل خاص بالنسبة لمن يحاول تغيير المجتمع. فجميع وسائل الإعلام يحاولون ملء عقولنا باستمرار بتفسيرات لحالة المجتمع المضطربة. هم يأملون أن نقبل بما يقولونه دون أن نفكّر أكثر حول القضايا نفسها، إلا أنك لا تستطيع أن تحارب بفعالية لتغيير المجتمع إلى الأفضل، ما لم تتعرف على ما هو خاطىء في تلك الأطروحات المختلفة. ظهر ذلك لأول مرة قبل 170 سنة. ففي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، أدى نشوء الصناعة في مناطق مختلفة مثل شمال غرب إنجلترا إلى دفع مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال للعمل مقابل أجور بخسة. وكان عليهم تحمّل ظروف معيشية بائسة بشكل يستعصي على التصديق، وبدأ هؤلاء بالنضال ضد تلك الأوضاع. مع ظهور أول منظمات عمالية جماهيرية "نقابات"، والتي كانت في بريطانيا مهد الثورة الصناعية، وهي الحركة الشارتية (أول حركة من أجل الحقوق السياسية للعمال). سرعان ما ظهرت مشكلة في كيفية تحقيق الحركة العمالية لأهدافها. حيث قال بعض الناس إنه من الممكن إقناع كبار المجتمع ومن يتحكمون به بالتغيير من خلال الوسائل السلمية. فمن شأن "القوة المعنوية" لحركة سلمية جماهيرية أن تكون كفيلة بإعطاء مكاسب للعمال. وقد قام مئات الآلاف من الناس بتنظيم أنفسهم والتظاهر والعمل من أجل بناء حركة على أساس تلك الآراء، لكي يواجهوا في النهاية الهزيمة والإحباط. في جانب آخر، اعتقد آخرون أنه بإمكان العمال تحقيق أهدافهم عن طريق الفعل الإقتصادي، دون مواجهة الجيش والشرطة. مرة أخرى أدت أفكارهم لنضالات جماهيرية، حيث شهدت إنجلترا في 1842 أول إضراب عام في العالم، وقد وقع في المناطق الصناعية في الشمال، حيث ثابر عشرات الآلاف من العمال على الإضراب لأربعة أسابيع، إلى أن أجبرهم الجوع والحرمان على العودة للعمل. وبقرب نهاية المرحلة الأولى من النضالات العمالية المهزومة، أقدم الألماني كارل ماركس على طرح أفكاره مُكتملة في كتيبه "البيان الشيوعي". لم تأت أفكاره من العدم، بل حاولت أفكاره توفير أساس للتعامل مع كافة الأسئلة التي أثارتها الحركة العمالية في ذلك الوقت. إن الأفكار التي طرحها ماركس لا تزال صالحة إلى غاية يومنا هذا. من الحماقة القول، كما يفعل بعض الناس، بأن هذه الأفكار قد عفا عليها الزمن لأن ماركس كتبها قبل 150 عام. فالواقع أن كافة الأفكار التي جادلها ماركس حول المجتمع ما تزال موجودة وواسعة الإنتشار للغاية. لم يكن ماركس أول من حاول وصف مشكلات المجتمع. ففي الوقت الذي كان يكتب فيه، كانت الإختراعات الجديدة في المصانع تخلق ثروة على نطاق لم يكن بوسع الأجيال السابقة أن تحلم به. ولأول مرة بدا أن الإنسانية لديها وسائل للدفاع عن نفسها ضد الكوارث الطبيعية التي كانت جلاد العصور السابقة. ومع ذلك فإن هذا لم يعني أي تحسّن في حياة غالبية الناس. بل على العكس تماماً، كانت حياة الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا في المصانع الجديدة أسوأ بكثير من حياة أجدادهم الذين كانوا يكدحون في الأرض. فأجورهم كانت بالكاد تبقيهم بحد الكفاية، في حين كانت موجات البطالة الواسعة تدفع بهم تحت هذا الحد. كانوا يُحشرون في أحياء بائسة وقذرة تفتقد للشروط الصحية السليمة، حيث يتعرّضون لأوبئة بشعة، وبدلاً من أن يؤدي تطور الحضارة إلى السعادة والرفاهية العامة، فإنه كان يخلق بؤساً أكبر. لم يلحظ ذلك ماركس فقط، وإنما بعض المفكرين الآخرين في تلك الفترة أيضاً، مثل الشاعرين الإنجليزيين بليك وشيلي، والفرنسيين فورييه وبرودون، والفيلسوفين الألمانيين هيجل وفيورباخ. أطلق هيجل وفيورباخ وصف "الإغتراب" على الحالة البائسة التي وجدت الإنسانية نفسها فيها، وهي كلمة لا نزال نسمعها كثيراً. كان ما يعنيه كل من هيجل وفيورباخ بالإغتراب؛ هو أن الرجال والنساء يجدون أنفسهم باستمرار تحت سيطرة وقهر قوي صنعوها بأنفسهم، وكلما تقدّم المجتمع، كلما زاد الناس بؤساً وإغتراباً. أخذ ماركس في كتاباته المُبكرة فكرة الإغتراب هذه، وطبقها على حياة أولئك الذين يخلقون ثروة المجتمع. "يزداد العامل فقراً مع زيادة الثروة التي ينتجها، وزيادة إنتاجه قوةً وتنوعاً، ومع زيادة قيمة عالم الأشياء تنخفض بشكل طردي قيمة عالم البشر، فالشيء الذي ينتجه العامل يواجهه كشيء مُغترب، كقوة مستقلة عن المنتج". في زمن ماركس كان الفهم الأوسع انتشاراً لمشكلة المجتمع لا يزال دينياً. كان يُقال إن البؤس يعود إلى عجز الناس عن إتّباع تعاليم الله. ولو أننا جميعاً نبذنا الخطيئة، فإن كل شيء سيصبح على ما يرام. كثيراً ما نسمع رأياً مماثلاً هذه الأيام، وإن كان عادةً لا يتخذ شكلاً دينياً. يتمثّل ذلك في الزعم بأنك لكي تغيّر المجتمع عليك أولاً أن تغيّر نفسك، وأنه إذا ما طَهّر الرجال والنساء -بشكل فردي- أنفسهم من الأنانية أو المادية، أو أحياناً السلبية واللامبالاة، فإن المجتمع سيصبح أفضل على الفور. أحد الآراء القريبة من هذا، لا تتحدث عن تغيير كل الأفراد، وإنما فقط البعض منهم، أولئك الذين يمارسون السلطة في المجتمع. كانت الفكرة هي جعل الأغنياء والأقوياء يرون حكم العقل. على سبيل المثال، عندما بدأ أحد الإشتراكيين البريطانيين، روبرت أوين، بمحاولة إقناع أصحاب المصانع بأن يكونوا أكثر عطفاً على عمالهم. لاحظ كيف أنهم دائماً ما يصفون جرائم أصحاب العمل بأنها "أخطاء"، كما لو أن بعض الحجج يمكن أن تقنع كبار رجال الأعمال بتخفيف قبضتهم على المجتمع. وصف ماركس كافة تلك الآراء بأنها مثالية، ولم يكن ذلك لأنه ضد أن يكون للناس آراء وأفكار، وإنما لأن تلك الآراء ترى الأفكار بمعزل عن الشروط التي يعيش في ظلها الناس. حيث ترتبط أفكار الناس بشكل وثيق بنوع الحياة التي يعيشونها في مجتمعاتهم. خذ على سبيل المثال "الأنانية". إن المجتمع اليوم يولد الأنانية، حتى بين الناس الذين يحاولون على الدوام أن يقدموا غيرهم من الناس على أنفسهم. فالعامل الذي يريد أن يقدم أفضل ما عنده من أجل أولاده، أو لكي يوفر لوالديه شيء إضافي إلى جانب معاشهم، يجد أن السبيل الوحيد أمامه هو الصراع دوماً ضد الآخرين من أجل وظيفة أفضل، أو مزيد من الأجر الإضافي، أو لكي يتقدّم صفوف الحصول على إعانات البطالة. في مجتمع كهذا، لا يمكن التخلّص من الأنانية أو الجشع بمجرد تغيير عقول الأفراد. لعله أكثر حماقة الحديث عن تغيير المجتمع عن طريق تغيير أفكار "النخبة". لنفرض أنك نجحت في كسب صاحب عمل كبير للأفكار الإشتراكية، وأنه توقّف عن إستغلال العمال. كل ما هنالك أنه سيخسر في المنافسة مع أصحاب العمل الآخرين، وسيدفع به ذلك خارج السوق. وحتى بالنسبة لمن يحكمون المجتمع، فإن المهم ليس هو الأفكار، وإنما بنية المجتمع التي يتبنّون داخلها هذه الأفكار. يمكن طرح هذه النقطة بطريقة أخرى. إذا كانت الأفكار هي التي تغيّر المجتمع، فمن أين تأتي الأفكار؟ إننا نعيش في مجتمع من نوع محدد، والأفكار المطروحة في الصحافة والتليفزيون ونظام التعليم تدافع عن هذا النوع من المجتمعات. فكيف إذاً يكون بوسع الأفراد أن يطوروا أفكاراً مختلفة تماماً؟ لأن خبراتهم اليومية تناقض الأفكار الرسمية للمجتمع. على سبيل المثال، أنت لا تستطيع أن تفسّر أسباب الإنخفاض الكبير في أعداد المتدينين اليوم، بالمقارنة بما كان عليه قبل مائة عام بمجرد نجاح الدعاية الإلحادية. فعليك أن تفسر لماذا ينصت الناس للأفكار الإلحادية بشكل لم يفعلوه قبل مائة عام. وبالمثل، إذا أردت أن تفهم تأثير "النخبة"، فعليك أن تفسّر لماذا يقبل الآخرون بإتّباعهم. من غير المجدي مثلاً، القول بأن نابليون أو لينين غيّروا التاريخ دون أن نفهم لماذا كان ملايين الناس راغبين في القيام بما اقترحاه، فهما في النهاية لم ينوّموا الناس مغناطيسياً، إنما هناك شيء معين في حياة المجتمع، وفي وقت معين، دفع الناس للشعور بأن ما إقترحاه بدا صحيحاً لهم. تستطيع أن تفهم كيف تتغيّر أفكار المجتمع إذا فهمت من أين تأتي هذه الأفكار ولماذا يقبلها الناس، ويعني ذلك النظر لأبعد من أفكار الناس، بل إلى ظروفهم المادية التي تقوم بإنشاء تلك الأفكار داخل المجتمع. لهذا أصر كارل ماركس على مقولته: ليس الوعي هو الذي يحدد الوجود الإجتماعي، إنما الوجود الإجتماعي هو الذي يحدد الوعي. 

هنا ينتهي ما جاء في الفصل الأول للكتاب. الجدير بالذكر أن الغنى سبب والفقر نتيجة، لذلك فالثروة لا تترك الفقير من نفسها وتذهب إلى الغني. حيث أن الرأسمالية تقوم عن طريق التحكّم بأجور العمال لتضمن التحكم بهم وإستغلالهم والسيطرة عليهم، وأن الوضع القائم عبارة عن صراع طبقي، بين طبقة مُستَغِلّة تملك وسائل الإنتاج ورأس المال والنفوذ والسلطة، وطبقة بسيطة مُستَغَلّة لا تملك غير راتب شهري مقابل جهد بدني أو ذهني. لذلك حتى تتضح منظومة المطالب والحقوق والواجبات على جميع الناس أن يفهموا وجود هذا الصراع.

إبراهيم العثمان
25/08/2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق